البيت النبوي
صفحة 1 من اصل 1
البيت النبوي
كان البيت النبوي في مكة قبل الهجرة يتألف منه عليه الصلاة والسلام، ومن زوجته خديجة بنت خويلد، تزوجها وهو في خمسة وعشرين من سنه، وهي في الأربعين، وهي أول من تزوجها من النساء، ولم يتزوج عليها غيرها. وكان له منها أبناء وبنات، أما الأبناء، فلم يعش منهم أحد. وأما البنات فهن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، فأما زينب فتزوجها قبل الهجرة ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، وأما رقية وأم كلثوم فقد تزوجهما عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه الواحدة بعد الأخرى. وأما فاطمة فتزوجها علي بن أبي طالب بين بدر واحد، ومنها كان الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم.
النكاح ولم يترك له خياراً ولا مجالاً، حتى تولى اللَّه ذلك النكاح بنفسه يقول: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37> وذلك ليهدم قاعدة التبني فعلا كما هدمها قولا: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5> {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40>. وكم من التقاليد المتأصلة الجازمة لا يمكن هدمها أو تعديلها لمجرد القول، بل لا بدل له من مقارنة فعل صاحب الدعوة، ويتضح ذلك بما صدر من المسلمين في عمرة الحديبية، كان هناك أولئك المسلمون الذين رآهم عروة بن مسعود الثقفي، لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا في يد أحدهم، ورآهم يتبادرون إلى وضوئه حتى كادوايقتتلون عليه، نعم كان أولئك الذين تسابقوا إلى البيعة على الموت أو على عدم الفرار تحت الشجرة، والذين كان فيهم مثل أبو بكر وعمر، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الصحابة المتفانين في ذاته - بعد عقد الصلح - أن يقوموا فينحروا هديهم لم يقم لامتثال أمره أحد، حتى أخذه القلق والاضطراب، ولكن لما أشارت عليه أم سلمة أن يقوم إلى هديه فينحر، ولا يكلم أحداً ففعل، تبادر الصحابة إلى اتباعه في فعله، فتسابقوا إلى نحر جزورهم. وبهذا الحادث يتضح جلياً ما هو الفرق بين أثري القول والفعل لهدم قاعدة راسخة. وقد أثار المنافقون وساوس كثيرة، وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح، أثر بعضها في ضعفاء المسلمين، لا سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يعرف المسلمون حل الزواج بأكثر من أربع نسوة وأن زيداً كان يعتبر ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم ، والزواج بزوجة الابن كان من أغلظ الفواحش، وقد أنزل اللَّه في سورة الأحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى وعلم الصحابة أن التبني ليس له أثر عند الإسلام، وأن اللَّه تعالى وسع لرسوله صلى الله عليه وسلم في الزواج ما لم يوسع لغيره، لأغراضه النبيلة الممتازة. هذا، وكانت عشرته صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن، كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيام بحقوق الزواج، مع أنه كان في شظف من العيش لا يطيقه أحد. قال أنس ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق باللَّه، ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط. وقالت عائشة إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نار. فقال لها عروة ما كان يعشيكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء. والأخبار بهذا الصدد كثيرة. ومع هذا الشظف والضيق لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إلا مرة واحدة - حسب مقتضى البشرية، وليكون سبباً لتشريع الأحكام - فأنزل اللَّه آية التخيير {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28-29> وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن اللَّه ورسوله وله، ولم تمل واحدة منهن إلى اختيار الدنيا. وكذلك لم يقع منهن ما يقع بين الضرائر مع كثرتهن إلا شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء البشرية، ثم عاتب اللَّه عليه فلم يعدن له مرة أخرى، وهو الذي ذكره اللَّه في سورة التحريم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1> إلى تمام الآية الخامسة. وأخيراً أرى أنه لا حاجة إلى البحث في موضوع مبدأ تعدد الزوجات، فمن نظر في حياة سكان أوروبا الذين يصدر منهن النكير الشديد على هذا المبدأ، ونظر إلى ما يقاسون من الشقاوة والمرارة، وما يأتون من الفضائح والجرائم الشنيعة، وما يواجهون من البلايا والقلاقل لانحرافهم عن هذا المبدأ كفى له ذلك عن البحث والاستدلال، فحياتهم أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ، وإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار. الصفات والأخلاق كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خَلقه وكمال خُلقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يعشق عادة لم يرزق بمثلها بشر - وفيما يلي نورد ملخص الروايات في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الإحاطة. جمال الخلق: قالت أم معبد الخزاعية عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وهي تصفه لزوجها، حين مر بخيمتها مهاجراً - ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق لم تعبه تجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشعاره وطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطح، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فضل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة، لا تقحمه عين من قصر ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود، محشود، لا عابس ولا مفند. وقال علي بن أبي طالب - وهو ينعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - لم يكن بالطويل الممغط، ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، لم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، وكان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، وكان في الوجه تدوير، وكان أبيض مشرباً، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، دقيق المسربة، أجرد، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية عنه أنه كان ضخم الرأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة إذا مشى تكفأ تكفياً كأنما ينحط من صبب. وقال جابر بن سمرة كان ضليع الفم، أشكل العين منهوس العقبين. وقال أبو الطفيل كان أبيض، مليح الوجه، مقصداً. وقال أنس بن مالك كان بسط الكفين، وقال: كان أزهر اللون، ليس بأبيض أمهق، ولا آدم، قبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. وقال: إنما كان شيء - أي من الشيب - في صدغيه. وفي رواية وفي الرأس نبذ. وقال أبو جحيفة رأيت بياضاً تحت شفته السفلى، العنفقة. وقال عبد اللَّه بن بسر كان في عنفقته شعرات بيض. وقال البراء كان مربوعاً بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه. وكان يسدل شعره أولاً لحبه موافقة أهل الكتاب، ثم فرق رأسه بعد. قال البراء كان أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً. وسئل أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا بل مثل القمر. وفي رواية كان وجهه مستديراً. وقالت الربيع بنت معوذ لو رأيت رأيت الشمس طالعة. وقال جابر بن سمرة رأيته في ليلة إضحيان فجعلت أنظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإلى القمر - وعليه حلة حمراء - فإذا هو أحسن عندي من القمر. وقال أبو هريرة ما رأيت شيئاً أحسن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، كأنما الأرض تطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث. وقال كعب بن مالك كان إذا سر أستار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر. وعرق مرة وهو عند عائشة فجعلت تبرق أسارير وجهه، فتمثلت له بقول أبي كبير الهذلي: وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل وكان أبو بكر إذا رآه يقول: أمين مصطفى بالخبر يدعو كضوء البدر زايله الظلام وكان عمر ينشد قول زهير في هرم بن أسد: لو كنت من شيء سوى البشر كنت المضيء كليلة البدر ثم يقول لذلك كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وكان إذا غضب أحمر وجهه، حتى كأنما فقىء في وجنيته حب الرمان. وقال جابر بن سمرة كان في ساقيه حموشة، وكان لا يضحك إلا تبسماً. وكنت إذا نظرت إليه قتل أكحل العينين، وليس بأكحل. قال ابن عباس كان أفلج الثنيتين، إذا تكلم رؤى كالنور يخرج من بين ثناياه. وأما عنقه فكأنه جيد دمية في صفاء الفضة، وكان في أشفاره غطف، وفي لحيته كثافة، وكان واسع الجبين، أزج الحواجب في غير قرن بينهما، أقنى العرنين، سهل الخدين، من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، أشعر الذراعين والمنكبين، سواء البطن والصدر، مسيح الصدر عريضه، طويل الزند، رحب الراحة، سبط القصب، خمصان الإخمصين سائل الأطراف، إذا زال زال قلعاً، يخطو تكفياً ويمشي هوناً. وقال أنس ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت ريحاً قط أو عرفاً قط، وفي رواية ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح أو عرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وقال أبو جحيفة أخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك. وقال جابر بن سمرة - وكان صبياً - مسح خدي فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار. وقال أنس كأن عرقه اللؤلؤ. وقالت أم سليم هو من أطيب الطيب. وقال جابر لم يسلك طريقاً فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه. أو قال: من ريح عرقه. وكان بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده، وكان عند ناغض كتفه اليسرى، جمعاً عليه خيلان كأمثال الثآليل. كمال النفس ومكارم الأخلاق: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، ونصاعة لفظ وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي. وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفات أدبه اللَّه بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبراً، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، قالت عائشة ما خير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة اللَّه فينتقم للَّه بها. وكان أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضاً. وكان من صفة الجود والكرم على ما لا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. وقال جابر ما سئل شيئاً قط فقال: لا. وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذيلا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة وحفظت عنه جولة سواه، قال علي كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. قال أنس فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عرى، في عنقه السيف، وهو يقول لم تراعوا، لم تراعوا. وكان أشد الناس حياءً وإغضاءً، قال أبو سعيد الخدري: كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهه. وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، لا يشافه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمى رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول ما بال أقوام يصنعون كذا، وكان أحق الناس بقول الفرزدق: يغضي حياءً ويغضي من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك محاوره وأعداؤه، وكان يسمى قبل نبوته الأمين، ويتحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روى الترمذي عن علي أن أبا جهل قال له إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل اللَّه تعالى فيهم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33> وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. وكان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه. وكان أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحداً يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خدمه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره. كان في بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة فقال رجل علي ذبحها، وقال آخر علي سلخها، وقال آخر علي طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم وعلي جمع الحطب، فقالوا: نحن نكفيك، فقال: قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن اللَّه يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه، وقام وجمع الحطب. ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؛ قال هند فيما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه - لا بأطراف فمه - ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً لا فضول فيه ولا تقصير دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً - ما يطعم - ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها - سماح - وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام. وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه. يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره. يتفقد أصحابه - ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره الذي يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن - لا يميز لنفسه مكاناً - إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين. يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم - لا تخشى فلتاته - يتعاطفون بالتقوى، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب. كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه قد ترك نفسه من ثلاث الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا. لا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافىء. وقال خارجة بن زيد كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلاً، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيراً له واقتداءً به. وعلى الجملة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلى بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنياً عليه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4> وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب وصيره قائداً تهوى إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه بعد الإباء، حتى دخلوا في دين اللَّه أفواجاً. وهذه الخلال التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ولا يسبر غوره، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن؟ اللهم صلّي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
النكاح ولم يترك له خياراً ولا مجالاً، حتى تولى اللَّه ذلك النكاح بنفسه يقول: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37> وذلك ليهدم قاعدة التبني فعلا كما هدمها قولا: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5> {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40>. وكم من التقاليد المتأصلة الجازمة لا يمكن هدمها أو تعديلها لمجرد القول، بل لا بدل له من مقارنة فعل صاحب الدعوة، ويتضح ذلك بما صدر من المسلمين في عمرة الحديبية، كان هناك أولئك المسلمون الذين رآهم عروة بن مسعود الثقفي، لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا في يد أحدهم، ورآهم يتبادرون إلى وضوئه حتى كادوايقتتلون عليه، نعم كان أولئك الذين تسابقوا إلى البيعة على الموت أو على عدم الفرار تحت الشجرة، والذين كان فيهم مثل أبو بكر وعمر، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الصحابة المتفانين في ذاته - بعد عقد الصلح - أن يقوموا فينحروا هديهم لم يقم لامتثال أمره أحد، حتى أخذه القلق والاضطراب، ولكن لما أشارت عليه أم سلمة أن يقوم إلى هديه فينحر، ولا يكلم أحداً ففعل، تبادر الصحابة إلى اتباعه في فعله، فتسابقوا إلى نحر جزورهم. وبهذا الحادث يتضح جلياً ما هو الفرق بين أثري القول والفعل لهدم قاعدة راسخة. وقد أثار المنافقون وساوس كثيرة، وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح، أثر بعضها في ضعفاء المسلمين، لا سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يعرف المسلمون حل الزواج بأكثر من أربع نسوة وأن زيداً كان يعتبر ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم ، والزواج بزوجة الابن كان من أغلظ الفواحش، وقد أنزل اللَّه في سورة الأحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى وعلم الصحابة أن التبني ليس له أثر عند الإسلام، وأن اللَّه تعالى وسع لرسوله صلى الله عليه وسلم في الزواج ما لم يوسع لغيره، لأغراضه النبيلة الممتازة. هذا، وكانت عشرته صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن، كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيام بحقوق الزواج، مع أنه كان في شظف من العيش لا يطيقه أحد. قال أنس ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق باللَّه، ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط. وقالت عائشة إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نار. فقال لها عروة ما كان يعشيكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء. والأخبار بهذا الصدد كثيرة. ومع هذا الشظف والضيق لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إلا مرة واحدة - حسب مقتضى البشرية، وليكون سبباً لتشريع الأحكام - فأنزل اللَّه آية التخيير {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28-29> وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن اللَّه ورسوله وله، ولم تمل واحدة منهن إلى اختيار الدنيا. وكذلك لم يقع منهن ما يقع بين الضرائر مع كثرتهن إلا شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء البشرية، ثم عاتب اللَّه عليه فلم يعدن له مرة أخرى، وهو الذي ذكره اللَّه في سورة التحريم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1> إلى تمام الآية الخامسة. وأخيراً أرى أنه لا حاجة إلى البحث في موضوع مبدأ تعدد الزوجات، فمن نظر في حياة سكان أوروبا الذين يصدر منهن النكير الشديد على هذا المبدأ، ونظر إلى ما يقاسون من الشقاوة والمرارة، وما يأتون من الفضائح والجرائم الشنيعة، وما يواجهون من البلايا والقلاقل لانحرافهم عن هذا المبدأ كفى له ذلك عن البحث والاستدلال، فحياتهم أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ، وإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار. الصفات والأخلاق كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خَلقه وكمال خُلقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يعشق عادة لم يرزق بمثلها بشر - وفيما يلي نورد ملخص الروايات في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الإحاطة. جمال الخلق: قالت أم معبد الخزاعية عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وهي تصفه لزوجها، حين مر بخيمتها مهاجراً - ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق لم تعبه تجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشعاره وطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطح، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فضل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة، لا تقحمه عين من قصر ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود، محشود، لا عابس ولا مفند. وقال علي بن أبي طالب - وهو ينعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - لم يكن بالطويل الممغط، ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، لم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، وكان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، وكان في الوجه تدوير، وكان أبيض مشرباً، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، دقيق المسربة، أجرد، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية عنه أنه كان ضخم الرأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة إذا مشى تكفأ تكفياً كأنما ينحط من صبب. وقال جابر بن سمرة كان ضليع الفم، أشكل العين منهوس العقبين. وقال أبو الطفيل كان أبيض، مليح الوجه، مقصداً. وقال أنس بن مالك كان بسط الكفين، وقال: كان أزهر اللون، ليس بأبيض أمهق، ولا آدم، قبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. وقال: إنما كان شيء - أي من الشيب - في صدغيه. وفي رواية وفي الرأس نبذ. وقال أبو جحيفة رأيت بياضاً تحت شفته السفلى، العنفقة. وقال عبد اللَّه بن بسر كان في عنفقته شعرات بيض. وقال البراء كان مربوعاً بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه. وكان يسدل شعره أولاً لحبه موافقة أهل الكتاب، ثم فرق رأسه بعد. قال البراء كان أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً. وسئل أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا بل مثل القمر. وفي رواية كان وجهه مستديراً. وقالت الربيع بنت معوذ لو رأيت رأيت الشمس طالعة. وقال جابر بن سمرة رأيته في ليلة إضحيان فجعلت أنظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإلى القمر - وعليه حلة حمراء - فإذا هو أحسن عندي من القمر. وقال أبو هريرة ما رأيت شيئاً أحسن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، كأنما الأرض تطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث. وقال كعب بن مالك كان إذا سر أستار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر. وعرق مرة وهو عند عائشة فجعلت تبرق أسارير وجهه، فتمثلت له بقول أبي كبير الهذلي: وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل وكان أبو بكر إذا رآه يقول: أمين مصطفى بالخبر يدعو كضوء البدر زايله الظلام وكان عمر ينشد قول زهير في هرم بن أسد: لو كنت من شيء سوى البشر كنت المضيء كليلة البدر ثم يقول لذلك كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وكان إذا غضب أحمر وجهه، حتى كأنما فقىء في وجنيته حب الرمان. وقال جابر بن سمرة كان في ساقيه حموشة، وكان لا يضحك إلا تبسماً. وكنت إذا نظرت إليه قتل أكحل العينين، وليس بأكحل. قال ابن عباس كان أفلج الثنيتين، إذا تكلم رؤى كالنور يخرج من بين ثناياه. وأما عنقه فكأنه جيد دمية في صفاء الفضة، وكان في أشفاره غطف، وفي لحيته كثافة، وكان واسع الجبين، أزج الحواجب في غير قرن بينهما، أقنى العرنين، سهل الخدين، من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، أشعر الذراعين والمنكبين، سواء البطن والصدر، مسيح الصدر عريضه، طويل الزند، رحب الراحة، سبط القصب، خمصان الإخمصين سائل الأطراف، إذا زال زال قلعاً، يخطو تكفياً ويمشي هوناً. وقال أنس ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت ريحاً قط أو عرفاً قط، وفي رواية ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح أو عرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وقال أبو جحيفة أخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك. وقال جابر بن سمرة - وكان صبياً - مسح خدي فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار. وقال أنس كأن عرقه اللؤلؤ. وقالت أم سليم هو من أطيب الطيب. وقال جابر لم يسلك طريقاً فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه. أو قال: من ريح عرقه. وكان بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده، وكان عند ناغض كتفه اليسرى، جمعاً عليه خيلان كأمثال الثآليل. كمال النفس ومكارم الأخلاق: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، ونصاعة لفظ وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي. وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفات أدبه اللَّه بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبراً، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، قالت عائشة ما خير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة اللَّه فينتقم للَّه بها. وكان أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضاً. وكان من صفة الجود والكرم على ما لا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. وقال جابر ما سئل شيئاً قط فقال: لا. وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذيلا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة وحفظت عنه جولة سواه، قال علي كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. قال أنس فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عرى، في عنقه السيف، وهو يقول لم تراعوا، لم تراعوا. وكان أشد الناس حياءً وإغضاءً، قال أبو سعيد الخدري: كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهه. وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، لا يشافه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمى رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول ما بال أقوام يصنعون كذا، وكان أحق الناس بقول الفرزدق: يغضي حياءً ويغضي من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك محاوره وأعداؤه، وكان يسمى قبل نبوته الأمين، ويتحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روى الترمذي عن علي أن أبا جهل قال له إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل اللَّه تعالى فيهم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33> وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. وكان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه. وكان أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحداً يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خدمه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره. كان في بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة فقال رجل علي ذبحها، وقال آخر علي سلخها، وقال آخر علي طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم وعلي جمع الحطب، فقالوا: نحن نكفيك، فقال: قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن اللَّه يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه، وقام وجمع الحطب. ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؛ قال هند فيما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه - لا بأطراف فمه - ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً لا فضول فيه ولا تقصير دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً - ما يطعم - ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها - سماح - وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام. وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه. يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره. يتفقد أصحابه - ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره الذي يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن - لا يميز لنفسه مكاناً - إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين. يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم - لا تخشى فلتاته - يتعاطفون بالتقوى، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب. كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه قد ترك نفسه من ثلاث الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا. لا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافىء. وقال خارجة بن زيد كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلاً، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيراً له واقتداءً به. وعلى الجملة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلى بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنياً عليه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4> وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب وصيره قائداً تهوى إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه بعد الإباء، حتى دخلوا في دين اللَّه أفواجاً. وهذه الخلال التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ولا يسبر غوره، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن؟ اللهم صلّي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى