مثل البعوضة فما فوقها
صفحة 1 من اصل 1
مثل البعوضة فما فوقها
مثل البعوضة فما فوقها
قال الله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾( البقرة: 26- 27 )
أولاً- هذا المثل جواب اعتراض اعترض به الكفار على القرآن، وقالوا: إن الرب أعظم من أن يذكر الذباب والعنكبوت ونحوهما من الحيوانات الخسيسة. فلو كان ما جاء به محمد كلام الله، لم يذكر فيه الحيوانات الخسيسة، فأجابهم الله تعالى بقوله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
فبيَّن سبحانه أن ضرب الأمثال بالبعوضة فما فوقها، إذا تضمن تحقيق الحق وإيضاحه، وإبطال الباطل وإدحاضه، كان من أحسن الأشياء، والحسن لا يستحيا منه، فليس في ذلك محل اعتراض؛ بل هو من تعليم الله تعالى لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى تلك الأمثال بالقبول والشكر.
وكأنَّ معترضًا اعترض على هذا الجواب، أو طلب حكمة ذلك، فأخبر سبحانه وتعالى عمَّا له في ضرب تلك الأمثال من الحكمة؛ وهي إضلال من يشاء، وهداية من يشاء.
ثم كأن سائلاً سأل عن حكمة الإضلال لمن يضله بذلك، فأخبر تعالى عن حكمته وعدله، وأنه إنما يضل به الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض؛ فكانت أعمالهم هذه القبيحة، التي ارتكبوها سببًا؛ لأن أضلهم وأعماهم عن الهدى.
ومناسبة هذا المَثَل لمَا قبله أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي الكفار بأن يأتوا بسورة من مثل القرآن، فلمَّا عجزوا عن ذلك، سلكوا في المعارضة طريقة الطَّعْن في المعاني، فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزَّه عنه كلام الله تعالى. وقد ثبت أن اليهود والمنافقين والمشركين كانوا جميعًا متوافقين على إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجدوا في الأمثال، التي ضرِبت لهم في القرآن الكريم منفذًا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن العظيم، بحجة أن ضرب الأمثال، بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم واحتقار لشأنهم، لا تصدر عن الله تعالى، وأن الله سبحانه لا يذكر في كلامه هذه الأشياء الصغيرة؛ كالذباب والعنكبوت ونحوهما من أمثال السَّوْء، التي ضربها لهم.
وكان هذا طرفًا من حملة التشكيك والبلبلة، التي كان يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة؛ كما كان يقوم بها المشركون في مكة، فجاءت هذه الآيات دفعًا لهذا الدَّسِّ والتشكيك، وبيانًا لحكمة الله تعالى في ضرب هذه الأمثال، وتحذيرًا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها، وتطمينًا للمؤمنين أنْ ستزيدهم إيمانًا.
وإلى ذلك أشار الزمخشري بقوله:” والعجبُ منهم، كيف أنكروا ذلك، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض والحشرات والهوام. وهذه أمثال العرب بين أيديهم مُسَيَّرةٌ في حواضرهم وبواديهم، قد تمثَّلوا فيها بأحقر الأشياء، فقالوا: أجمعُ من ذرَّة، وأجرأُ من الذباب، وأسمعُ من قُرَاد، وأصْرَدُ من جرادة، وأضعفُ من فراشة، وآكلُ من السوس. وقالوا في البعوضة: أضعفُ من بعوضة، وأعزُّ من مخ البعوضة، وكلفتني مخَّ البعوضة. ولقد ضُرِبَتِ الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقَّرة؛ كالزوان، والنخالة، وحبة الخردل، والحصاة، والدود، والزنابير.
والتمثيل بهذه الأشياء، وبأحقر منها ممَّا لا تُغْبَى استقامتُه وصحتُه على من به أدنى مُسْكَة؛ ولكن دَيْدَن المحجوج المبهوت، الذي لا يبقى له متمسَّك بدليل، ولا متشبَّث بأمارة، ولا إقناع أن يرمي لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح، وإنكار المستقيم، والتعويل على المكابرة والمغالطة، إذا لم يجد سوى ذلك معولاً “.
ثانيًا- ومَساقُ قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ مصدَّرٌ بـ﴿ إِنَّ ﴾ يدل على التوكيد، وجيء بفعل الاستحياء المنفي مسندًا إلى لفظ الجلالة دون غيره من أسماء الله تعالى؛ لأنه الاسم الجامع لصفات الكمال والجلال كلها، فكان ذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه سبحانه هو الأعلى في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة. وفي ذلك أيضًا إبطال لتمويه الكفار، وتشكيكهم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله تعالى؛ إذ ليس من معنى الآية الكريمة أن غير الله تعالى ينبغي له أن يستحيي أن يضرب مثلاً من هذا القبيل.
ولهذا أيضًا اختار سبحانه وتعالى أن يكون المسندُ إلى لفظ الجلالة خُصوصَ فعل الاستحياء، زيادةً في الردِّ عليهم؛ لأنهم أنكروا التمثيل بهذه الأشياء، لمراعاة كراهة الناس. ومثل هذا ضرب من الاستحياء، فنُبِّهوا على أن الخالق جل وعلا لا يستحيي من ذلك؛ إذ ليس ممَّا يستحيا منه؛ ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها، والمتصرف فيها، وما من شيء خلقه الله تعالى، إلا وفيه حكم كثيرة؛ منها ما يعلم، ومنها ما يجهل.
على أن العبرة في الأمثال ليست في الحجم والشكل؛ وإنما العبرة فيها أنها أدوات للتنوير والتبصير؛ وذلك” لما فيها من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهَّم من المشاهد؛ فإن كان المتمثل له عظيمًا كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرًا كان المتمثل به كذلك. فليس الكبر والصغر، أو العظم والحقارة في المضروب به المثل- إذًا- إلا أمرًا تستدعيه حال المتمثل له، وتستجرُّه إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية. ألا ترى إلى الحق لما كان واضحًا جليًّا أبلجَ، كيف مثِّل له بالضياء والنور، وإلى الباطل لما كان بضد صفته كيف مثل له بالظلمة ؟ ولما كانت حال الأولياء الذين يتخذهم المشركون أندادًا لله تعالى، لا حال أحقرَ منها وأقلَّ، جعل الله تعالى بيت العنكبوت مَثلَها في الوهَن، وجعلها أقلَّ من الذباب وأخسَّ قدرًا، وضرب لها البعوضة، فما فوقها مثلاً “.
فليس في ضرب هذه الأمثال ما يعاب، وما من شأنه الاستحياء من ذكره؛ لأنه كلما كان المضروب به المثل أضعف، كان المثل أقوى وأوضح. والله تعالى جلَّت حكمته يضرب للناس في الحق والباطل أمثالاً، لا يعقلها إلا العالمون، الذين يخشونه، يريد بها اختبار القلوب وامتحان النفوس والكشف عن خباياها. وهذا حقٌّ، والله تعالى لا يستحيي من إظهار الحق وبيانه؛ كما أخبر سبحانه عن نفسه في آية أخرى، فقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾(الأحزاب: 53)
وقراءة الجمهور:﴿ يَسْتَحْيِي ﴾، بياءين، وهي لغة الحجاز، والماضي منه: استحيا، على وزن: استفعل. وقرأ ابن كثير في رواية شبل:﴿ يَسْتَحِي ﴾، بياء واحدة، وهي لغة بني تميم، والماضي منه: استحى، ووزنه: استَفَلَ، عند جمهور النحاة، على أن المحذوف هو عين الفعل. واستَفْعَ، عند بعضهم، على أن المحذوف هو لام الفعل، وكلاهما من الحياء، يقال: حَيِيَ الرجل، واستحيا. ومجيئه على وزن: استفعل، ليس المراد به الدلالة على الطلب، مثل استوقد. أي: طلب الإيقاد؛ وإنما المراد به المبالغة، مثل استقدم، واستأخر، واستنكف، واستأثر، واستبد، واستعبر. وذهب بعضهم إلى القول بأنه جاء- هنا- على وزن: استفعل، للإغناء عن الثلاثي المجرد، وهو من المعاني، التي جاء لها: استفعل.
وفي استحيا لغتان: الأولى: استحييته. والثانية: استحييت منه. فيكون ممَّا يُعَدَّى بنفسه تارة، وممَّا يُعَدَّى بـ﴿ مِنَ ﴾ تارة أخرى. فعلى هذا يحتمل قوله تعالى:﴿ أَنْ يَضْرِبَ ﴾ أن يكون مفعولاً به عُدِّيَ إليه الفعل بنفسه. أو عُدِّيَ إليه بإسقاط ﴿ مِنَ ﴾، التي يَحسُن ذكرها مع المصدر الصريح؛ كما في قوله تعالى في آية الأحزاب: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ ، ويحسُن حذفها مع ﴿ أَنْ ﴾، والفعل؛ كما في قوله تعالى هنا :﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ﴾ .
والحياء- في أصل اللغة- هو انقباض النفس عن الشيء، والامتناع منه خوفًا من مواقعةِ القبح. واشتقاقه من الحياة؛ فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية، فيردها عن أفعالها، وهيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال، يظهر أثرها على الوجه، وفي الإمساك عمَّا من شأنه أن يُفعل. ولما كان الحياء بهذا المعنى غير لائق بجلال الله تعالى، اختلف المفسرون في تأويل الاستحياء المنسوبِ نفيُه إلى الله تعالى على ثلاثة أقوال:
أولها: لا يترك أن يضرب مثلاً مَّا. فعبَّر بالحياء عن الترك اللازم للفعل؛ لأن الترك من ثمرات الحياء؛ لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء، تركه، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب.
والثاني: لا يخشى أن يضرب مثلاً مَّا. وسمِّيت الخشية حياء؛ لأنها من ثمراته، وقد قيل في قوله تعالى:﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾( الأحزاب: 37 ): إن معناه: تستحي من الناس.
والثالث: لا يمتنع أن يضرب مثلاً بالبعوضة امتناعَ المستحيي.
وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء، التي موضوعُها في اللغة، لا ينبغي أن يوصف الله تعالى به، وكلها متقاربة من حيث المعنى، وأشهرها التأويل الأول، وبه أوِّل الحياء، الذي جاء مثبتًا منسوبًا إلى الله تعالى في الحديث، الذي أخرجه الترمذي في سننه عن سلمان الفارسيِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:” إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ “، فقد أُوِّل بأنه سبحانه تاركٌ للقبائح، فاعلٌ للمحاسن.
وذهب الشيخ ابن تيميَّة إلى أنه لا داعي لتأويل الحياء بالترك اللازم للانقباض؛ كما ذهب إلى ذلك كثير من المفسرين؛ لأن صفات الله تعالى لا تحتمل تأويلاً، ولا تكييفًا. ومذهب أهل الحديث- وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف- أن هذه الأحاديث تمرُّ كما جاءت، ويؤمَن بها، وتصدَّق وتصَان عن تأويل يفضى إلى تعطيل، وتكييف يفضى إلى تمثيل؛ وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يُحتذَى حذوُه، ويُتبَعُ فيه مثالُه. فإذا كان إثباتُ الذات إثباتَ وجود لا إثبات كيفية، فكذلك يكون إثباتُ الصفات إثباتَ وجود لا إثبات كيفية، والله جل وعلا أخبر عن نفسه، فقال:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾(الشورى:11)
ففي قوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ ردٌّ للتشبيه والتمثيل، وفي قوله:﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ ردٌّ للإلحاد والتعطيل. والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصَّل، ونفيٍ مجمَل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفَوْا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل.
أما أبو حيَّان، فقال:” والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب، وفيه الحقيقة والمجاز؛ فما صحَّ في العقل نسبتُه إليه، نسبناه إليه، وما استحال أوَّلناه بما يليق به تعالى؛ كما نؤوِّل فيما ينسَب إلى غيره، ممَّا لا يصحُّ نسبتُه إليه. والحياءُ- بموضوع اللغة- لا يصحُّ نسبتُه إلى الله تعالى؛ فلذلك أوَّله أهل العلم “.
وذهب بعضهم إلى القول بأن الاستحياء- هنا- منفيٌّ عن أن يكون وصفًا لله تعالى، فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله جل وعلا. ورُدَّ ذلك بأن نفيَ الاستحياء عنه سبحانه في شيء مخصوص، يُفْهَم منه ثبوتُه في غيره؛ كما دلَّ على ذلك الحديث السابق. وأجيب عنه بأن انتفاء الشيء ليس ممَّا يدل على تجويزه على من نُفِيَ عنه، ولا على صحة نسبته إليه، وأن كل أمر مستحيل على الله تعالى إثباته يصح أن ينفى عنه، وبذلك نزل القرآن، وجاءت السنة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:
﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ ﴾(البقرة: 255)
﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾(الإخلاص: 3)
﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾(الأنعام: 14)
كيف جاءت هذه الصفات منفية عن الله تعالى، وهي ممَّا لا تجوز نسبتها إليه سبحانه ؟ ويقال: إن كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده.
وقيل: قد يكون ذِكْرُ الاستحياء- هنا- محاكاة لقول الكافرين على سبيل المقابلة؛ لأنه روي أن الكفار قالوا: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ؟ ومجيء الشيء على سبيل المقابلة، وإن لم يكن من جنس ما قوبل به، شائع في لسان العرب؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾( البقرة: 194 ) ، فسمَّى جزاء الاعتداء اعتداء؛ لأن العقوبة كثيرًا ما تسمَّى باسم الذنب، وإن لم تكن في معناه.
ثالثًا- وقوله تعالى:﴿ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾. أيْ: أيَّ مثل كان، لاشتمال الأمثال على الحكمة، وإيضاح الحق. وعبَّر عن ذلك بلفظ الضَّرْبِ؛ لأنه يأتي عند إرادة التأثير، وهَيْجِ الانفعال؛ كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعًا، ينفذ أثره إلى قلبه، وينتهي إلى أعماق نفسه. وإذا كان الغرض من ضرب المثل هو التأثير، فالبلاغة تقضي أن تُضْرَبَ الأمثالُ لمَا يُرادُ تحقيرُه، والتنفيرُ عنه بحال الأشياء، التي جرى العُرْفُ على تحقيرها، واعتادت النفوسُ على النفور منها.
وضربُ المثل يعني: جمعه وتأليفه وتقديره. أي: صوغُه وإنشاؤه من مجموع شيئين متماثلين في الحكم، أحدُهما أصلٌ، والآخرُ فرع، يقاس على الأصل للاعتبار به؛ إما قياسُ تمثيلٍ- كما في الأمثال المعيَّنة، التي يُصرَّح فيها بذكر الأصل والفرع- كمثل المنافقين. وإما قياسُ شُمولٍ- كما في الأمثال الكليَّة، التي يصرَّح فيها بالأصل المعتبر به؛ ليستفاد منه حكمُ الفرع من غير تصريح بذكر الفرع- كهذا المثل، وهو قوله تعالى:﴿ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾، فقد ضربه الله تعالى مَثلاً للآلهة، التي جعلها المشركون أندادًا لله سبحانه وتعالى. والغرضُ منه: تحقيرُ تلك الآلهة، والتقليلُ من شأنها.
وقيل : هذا مثلٌ ضُرِبَ للدنيا وأهلها؛ فإن البعوضة تحيا ما جاعت، وإذا شبعت ماتت. كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤا منها، هلكوا. أو هو مثلٌ لأعمال العباد، وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قلَّ، أو كثُر؛ ليجازي عليه ثوابًا وعقابًا. وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها؛ بل هي ابتداء كلام، وكلا القولين ضعيف، يأباه رَصْفُ الكلام واتِّسَاقُ المعنى.
وقوله تعالى:﴿ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ هو من الطباق الخفي، الذي يقوم على المقابلة بين الصغير، والأصغر منه. و﴿ مَا ﴾ إبهامية، توصَف بها النكرةُ، فتزيدها إبهامًا وشيوعًا وعمومًا. والمعنى: مثلاً أيَّ مثل كان. وقد تفيد التحقير؛ كقولك: أعطه شيئًا مَّا، وتفيد التعظيم؛ كقولهم في المثل:{ لأمر مَّا جدع قصيرُ أنفه }، وتفيد التنويع؛ كقولك: اضربه ضربًا مَّا. وقد جعلها بعضهم- هنا- سيفَ خطيبٍ. أي: صلة مُلغاة، أو زائدة. وعليه يكون التقدير: مَثَلاً بَعُوضَةً. والقرآن الكريم أجلُّ وأعظمُ من أن يُلْغَى فيه شيءٌ، أو يُزادُ لغير معنى. وقد وصفه الله تعالى بكونه هدى وبيانًا. وكونُه فيه لغوٌ، أو زائدٌ ينافي ذلك.
وقوله تعالى:﴿ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ تفسير لـقوله:﴿ مَثَلًا مَا ﴾، وبدل منه. وقرىء:﴿ بَعُوضَةٌ ﴾، بالرفع. وتوجيهُ هذه القراءة عند النحاة أن البعوضة خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو. وعليه تكون ﴿ مَا ﴾ موصولة، ويكون التقدير: مثلاً الذي هو بعوضةٌ.
و﴿ بَعُوضَةٌ ﴾ واحد البعوض، وهو من الحشرات ثنائية الجناحين، ويشترك مع الذباب في عائلة واحدة، ويتواجد بكثرة في كل أنحاء العالم ماعدا القطبين. ولفظه مَبْنِيٌّ من البَعْض، بمعنى: القطع؛ وذلك لصغر جسمه بالإضافة إلى سائر الحشرات. وقيل: خصَّه الله تعالى بالذكر في القلة، فأخبر سبحانه أنه لا يستحيي أن يضرب أقلَّ الأمثال في الحق وأصغرها. وعن قتادة قال:” البعوضة أضعف ما خلق الله “. ومع ذلك ففيها من دقيق الصنع، وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه، ولا ينكر ذلك إلا نمرود. ومما قيل في وصفها: إنها صغيرة جدًا، وخرطومها في غاية الصغر، ثم إنه مع ذلك مجوَّف، وإنه مع فرط صغره، وتجويفه يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته؛ وذلك لما ركب الله تعالى فيه من السم.
والمشهور عن البعوض- ذكرًا كان أو أنثى- أنه مصَّاص للدماء. والذي ثبت أخيرًا أن أنثى البعوض هي التي تمصُّ الدماء دون الذكر. وربما كان في ذكر الله سبحانه للبعوضة بصيغتها المؤنثة نوع من الإعجاز؛ وذلك أن البعوضة المؤنثة أشد قوة، وأكثر تعقيدًا، كما أنها هي التي تنقل الأمراض لانتشارها في المنازل. أما الذكور منها فلا تظهر إلا في موسم التزاوج. والسر في تخصُّص أنثى البعوض بمصِّ الدماء دون الذكر هو البحث عن مصدر للبروتين، لإنتاج وإنضاج البيض، الذي تفرزه، فهي مضطرة لامتصاص الدم؛ لكي تحافظ على دوام نسلها. أما غذاء البعوض عامة فهو من خلاصة الزهور.
*
قال الله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾( البقرة: 26- 27 )
أولاً- هذا المثل جواب اعتراض اعترض به الكفار على القرآن، وقالوا: إن الرب أعظم من أن يذكر الذباب والعنكبوت ونحوهما من الحيوانات الخسيسة. فلو كان ما جاء به محمد كلام الله، لم يذكر فيه الحيوانات الخسيسة، فأجابهم الله تعالى بقوله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
فبيَّن سبحانه أن ضرب الأمثال بالبعوضة فما فوقها، إذا تضمن تحقيق الحق وإيضاحه، وإبطال الباطل وإدحاضه، كان من أحسن الأشياء، والحسن لا يستحيا منه، فليس في ذلك محل اعتراض؛ بل هو من تعليم الله تعالى لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى تلك الأمثال بالقبول والشكر.
وكأنَّ معترضًا اعترض على هذا الجواب، أو طلب حكمة ذلك، فأخبر سبحانه وتعالى عمَّا له في ضرب تلك الأمثال من الحكمة؛ وهي إضلال من يشاء، وهداية من يشاء.
ثم كأن سائلاً سأل عن حكمة الإضلال لمن يضله بذلك، فأخبر تعالى عن حكمته وعدله، وأنه إنما يضل به الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض؛ فكانت أعمالهم هذه القبيحة، التي ارتكبوها سببًا؛ لأن أضلهم وأعماهم عن الهدى.
ومناسبة هذا المَثَل لمَا قبله أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي الكفار بأن يأتوا بسورة من مثل القرآن، فلمَّا عجزوا عن ذلك، سلكوا في المعارضة طريقة الطَّعْن في المعاني، فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزَّه عنه كلام الله تعالى. وقد ثبت أن اليهود والمنافقين والمشركين كانوا جميعًا متوافقين على إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجدوا في الأمثال، التي ضرِبت لهم في القرآن الكريم منفذًا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن العظيم، بحجة أن ضرب الأمثال، بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم واحتقار لشأنهم، لا تصدر عن الله تعالى، وأن الله سبحانه لا يذكر في كلامه هذه الأشياء الصغيرة؛ كالذباب والعنكبوت ونحوهما من أمثال السَّوْء، التي ضربها لهم.
وكان هذا طرفًا من حملة التشكيك والبلبلة، التي كان يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة؛ كما كان يقوم بها المشركون في مكة، فجاءت هذه الآيات دفعًا لهذا الدَّسِّ والتشكيك، وبيانًا لحكمة الله تعالى في ضرب هذه الأمثال، وتحذيرًا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها، وتطمينًا للمؤمنين أنْ ستزيدهم إيمانًا.
وإلى ذلك أشار الزمخشري بقوله:” والعجبُ منهم، كيف أنكروا ذلك، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض والحشرات والهوام. وهذه أمثال العرب بين أيديهم مُسَيَّرةٌ في حواضرهم وبواديهم، قد تمثَّلوا فيها بأحقر الأشياء، فقالوا: أجمعُ من ذرَّة، وأجرأُ من الذباب، وأسمعُ من قُرَاد، وأصْرَدُ من جرادة، وأضعفُ من فراشة، وآكلُ من السوس. وقالوا في البعوضة: أضعفُ من بعوضة، وأعزُّ من مخ البعوضة، وكلفتني مخَّ البعوضة. ولقد ضُرِبَتِ الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقَّرة؛ كالزوان، والنخالة، وحبة الخردل، والحصاة، والدود، والزنابير.
والتمثيل بهذه الأشياء، وبأحقر منها ممَّا لا تُغْبَى استقامتُه وصحتُه على من به أدنى مُسْكَة؛ ولكن دَيْدَن المحجوج المبهوت، الذي لا يبقى له متمسَّك بدليل، ولا متشبَّث بأمارة، ولا إقناع أن يرمي لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح، وإنكار المستقيم، والتعويل على المكابرة والمغالطة، إذا لم يجد سوى ذلك معولاً “.
ثانيًا- ومَساقُ قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ مصدَّرٌ بـ﴿ إِنَّ ﴾ يدل على التوكيد، وجيء بفعل الاستحياء المنفي مسندًا إلى لفظ الجلالة دون غيره من أسماء الله تعالى؛ لأنه الاسم الجامع لصفات الكمال والجلال كلها، فكان ذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه سبحانه هو الأعلى في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة. وفي ذلك أيضًا إبطال لتمويه الكفار، وتشكيكهم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله تعالى؛ إذ ليس من معنى الآية الكريمة أن غير الله تعالى ينبغي له أن يستحيي أن يضرب مثلاً من هذا القبيل.
ولهذا أيضًا اختار سبحانه وتعالى أن يكون المسندُ إلى لفظ الجلالة خُصوصَ فعل الاستحياء، زيادةً في الردِّ عليهم؛ لأنهم أنكروا التمثيل بهذه الأشياء، لمراعاة كراهة الناس. ومثل هذا ضرب من الاستحياء، فنُبِّهوا على أن الخالق جل وعلا لا يستحيي من ذلك؛ إذ ليس ممَّا يستحيا منه؛ ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها، والمتصرف فيها، وما من شيء خلقه الله تعالى، إلا وفيه حكم كثيرة؛ منها ما يعلم، ومنها ما يجهل.
على أن العبرة في الأمثال ليست في الحجم والشكل؛ وإنما العبرة فيها أنها أدوات للتنوير والتبصير؛ وذلك” لما فيها من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهَّم من المشاهد؛ فإن كان المتمثل له عظيمًا كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرًا كان المتمثل به كذلك. فليس الكبر والصغر، أو العظم والحقارة في المضروب به المثل- إذًا- إلا أمرًا تستدعيه حال المتمثل له، وتستجرُّه إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية. ألا ترى إلى الحق لما كان واضحًا جليًّا أبلجَ، كيف مثِّل له بالضياء والنور، وإلى الباطل لما كان بضد صفته كيف مثل له بالظلمة ؟ ولما كانت حال الأولياء الذين يتخذهم المشركون أندادًا لله تعالى، لا حال أحقرَ منها وأقلَّ، جعل الله تعالى بيت العنكبوت مَثلَها في الوهَن، وجعلها أقلَّ من الذباب وأخسَّ قدرًا، وضرب لها البعوضة، فما فوقها مثلاً “.
فليس في ضرب هذه الأمثال ما يعاب، وما من شأنه الاستحياء من ذكره؛ لأنه كلما كان المضروب به المثل أضعف، كان المثل أقوى وأوضح. والله تعالى جلَّت حكمته يضرب للناس في الحق والباطل أمثالاً، لا يعقلها إلا العالمون، الذين يخشونه، يريد بها اختبار القلوب وامتحان النفوس والكشف عن خباياها. وهذا حقٌّ، والله تعالى لا يستحيي من إظهار الحق وبيانه؛ كما أخبر سبحانه عن نفسه في آية أخرى، فقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾(الأحزاب: 53)
وقراءة الجمهور:﴿ يَسْتَحْيِي ﴾، بياءين، وهي لغة الحجاز، والماضي منه: استحيا، على وزن: استفعل. وقرأ ابن كثير في رواية شبل:﴿ يَسْتَحِي ﴾، بياء واحدة، وهي لغة بني تميم، والماضي منه: استحى، ووزنه: استَفَلَ، عند جمهور النحاة، على أن المحذوف هو عين الفعل. واستَفْعَ، عند بعضهم، على أن المحذوف هو لام الفعل، وكلاهما من الحياء، يقال: حَيِيَ الرجل، واستحيا. ومجيئه على وزن: استفعل، ليس المراد به الدلالة على الطلب، مثل استوقد. أي: طلب الإيقاد؛ وإنما المراد به المبالغة، مثل استقدم، واستأخر، واستنكف، واستأثر، واستبد، واستعبر. وذهب بعضهم إلى القول بأنه جاء- هنا- على وزن: استفعل، للإغناء عن الثلاثي المجرد، وهو من المعاني، التي جاء لها: استفعل.
وفي استحيا لغتان: الأولى: استحييته. والثانية: استحييت منه. فيكون ممَّا يُعَدَّى بنفسه تارة، وممَّا يُعَدَّى بـ﴿ مِنَ ﴾ تارة أخرى. فعلى هذا يحتمل قوله تعالى:﴿ أَنْ يَضْرِبَ ﴾ أن يكون مفعولاً به عُدِّيَ إليه الفعل بنفسه. أو عُدِّيَ إليه بإسقاط ﴿ مِنَ ﴾، التي يَحسُن ذكرها مع المصدر الصريح؛ كما في قوله تعالى في آية الأحزاب: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ ، ويحسُن حذفها مع ﴿ أَنْ ﴾، والفعل؛ كما في قوله تعالى هنا :﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ﴾ .
والحياء- في أصل اللغة- هو انقباض النفس عن الشيء، والامتناع منه خوفًا من مواقعةِ القبح. واشتقاقه من الحياة؛ فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية، فيردها عن أفعالها، وهيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال، يظهر أثرها على الوجه، وفي الإمساك عمَّا من شأنه أن يُفعل. ولما كان الحياء بهذا المعنى غير لائق بجلال الله تعالى، اختلف المفسرون في تأويل الاستحياء المنسوبِ نفيُه إلى الله تعالى على ثلاثة أقوال:
أولها: لا يترك أن يضرب مثلاً مَّا. فعبَّر بالحياء عن الترك اللازم للفعل؛ لأن الترك من ثمرات الحياء؛ لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء، تركه، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب.
والثاني: لا يخشى أن يضرب مثلاً مَّا. وسمِّيت الخشية حياء؛ لأنها من ثمراته، وقد قيل في قوله تعالى:﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾( الأحزاب: 37 ): إن معناه: تستحي من الناس.
والثالث: لا يمتنع أن يضرب مثلاً بالبعوضة امتناعَ المستحيي.
وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء، التي موضوعُها في اللغة، لا ينبغي أن يوصف الله تعالى به، وكلها متقاربة من حيث المعنى، وأشهرها التأويل الأول، وبه أوِّل الحياء، الذي جاء مثبتًا منسوبًا إلى الله تعالى في الحديث، الذي أخرجه الترمذي في سننه عن سلمان الفارسيِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:” إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ “، فقد أُوِّل بأنه سبحانه تاركٌ للقبائح، فاعلٌ للمحاسن.
وذهب الشيخ ابن تيميَّة إلى أنه لا داعي لتأويل الحياء بالترك اللازم للانقباض؛ كما ذهب إلى ذلك كثير من المفسرين؛ لأن صفات الله تعالى لا تحتمل تأويلاً، ولا تكييفًا. ومذهب أهل الحديث- وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف- أن هذه الأحاديث تمرُّ كما جاءت، ويؤمَن بها، وتصدَّق وتصَان عن تأويل يفضى إلى تعطيل، وتكييف يفضى إلى تمثيل؛ وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يُحتذَى حذوُه، ويُتبَعُ فيه مثالُه. فإذا كان إثباتُ الذات إثباتَ وجود لا إثبات كيفية، فكذلك يكون إثباتُ الصفات إثباتَ وجود لا إثبات كيفية، والله جل وعلا أخبر عن نفسه، فقال:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾(الشورى:11)
ففي قوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ ردٌّ للتشبيه والتمثيل، وفي قوله:﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ ردٌّ للإلحاد والتعطيل. والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصَّل، ونفيٍ مجمَل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفَوْا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل.
أما أبو حيَّان، فقال:” والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب، وفيه الحقيقة والمجاز؛ فما صحَّ في العقل نسبتُه إليه، نسبناه إليه، وما استحال أوَّلناه بما يليق به تعالى؛ كما نؤوِّل فيما ينسَب إلى غيره، ممَّا لا يصحُّ نسبتُه إليه. والحياءُ- بموضوع اللغة- لا يصحُّ نسبتُه إلى الله تعالى؛ فلذلك أوَّله أهل العلم “.
وذهب بعضهم إلى القول بأن الاستحياء- هنا- منفيٌّ عن أن يكون وصفًا لله تعالى، فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله جل وعلا. ورُدَّ ذلك بأن نفيَ الاستحياء عنه سبحانه في شيء مخصوص، يُفْهَم منه ثبوتُه في غيره؛ كما دلَّ على ذلك الحديث السابق. وأجيب عنه بأن انتفاء الشيء ليس ممَّا يدل على تجويزه على من نُفِيَ عنه، ولا على صحة نسبته إليه، وأن كل أمر مستحيل على الله تعالى إثباته يصح أن ينفى عنه، وبذلك نزل القرآن، وجاءت السنة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:
﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ ﴾(البقرة: 255)
﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾(الإخلاص: 3)
﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾(الأنعام: 14)
كيف جاءت هذه الصفات منفية عن الله تعالى، وهي ممَّا لا تجوز نسبتها إليه سبحانه ؟ ويقال: إن كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده.
وقيل: قد يكون ذِكْرُ الاستحياء- هنا- محاكاة لقول الكافرين على سبيل المقابلة؛ لأنه روي أن الكفار قالوا: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ؟ ومجيء الشيء على سبيل المقابلة، وإن لم يكن من جنس ما قوبل به، شائع في لسان العرب؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾( البقرة: 194 ) ، فسمَّى جزاء الاعتداء اعتداء؛ لأن العقوبة كثيرًا ما تسمَّى باسم الذنب، وإن لم تكن في معناه.
ثالثًا- وقوله تعالى:﴿ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾. أيْ: أيَّ مثل كان، لاشتمال الأمثال على الحكمة، وإيضاح الحق. وعبَّر عن ذلك بلفظ الضَّرْبِ؛ لأنه يأتي عند إرادة التأثير، وهَيْجِ الانفعال؛ كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعًا، ينفذ أثره إلى قلبه، وينتهي إلى أعماق نفسه. وإذا كان الغرض من ضرب المثل هو التأثير، فالبلاغة تقضي أن تُضْرَبَ الأمثالُ لمَا يُرادُ تحقيرُه، والتنفيرُ عنه بحال الأشياء، التي جرى العُرْفُ على تحقيرها، واعتادت النفوسُ على النفور منها.
وضربُ المثل يعني: جمعه وتأليفه وتقديره. أي: صوغُه وإنشاؤه من مجموع شيئين متماثلين في الحكم، أحدُهما أصلٌ، والآخرُ فرع، يقاس على الأصل للاعتبار به؛ إما قياسُ تمثيلٍ- كما في الأمثال المعيَّنة، التي يُصرَّح فيها بذكر الأصل والفرع- كمثل المنافقين. وإما قياسُ شُمولٍ- كما في الأمثال الكليَّة، التي يصرَّح فيها بالأصل المعتبر به؛ ليستفاد منه حكمُ الفرع من غير تصريح بذكر الفرع- كهذا المثل، وهو قوله تعالى:﴿ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾، فقد ضربه الله تعالى مَثلاً للآلهة، التي جعلها المشركون أندادًا لله سبحانه وتعالى. والغرضُ منه: تحقيرُ تلك الآلهة، والتقليلُ من شأنها.
وقيل : هذا مثلٌ ضُرِبَ للدنيا وأهلها؛ فإن البعوضة تحيا ما جاعت، وإذا شبعت ماتت. كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤا منها، هلكوا. أو هو مثلٌ لأعمال العباد، وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قلَّ، أو كثُر؛ ليجازي عليه ثوابًا وعقابًا. وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها؛ بل هي ابتداء كلام، وكلا القولين ضعيف، يأباه رَصْفُ الكلام واتِّسَاقُ المعنى.
وقوله تعالى:﴿ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ هو من الطباق الخفي، الذي يقوم على المقابلة بين الصغير، والأصغر منه. و﴿ مَا ﴾ إبهامية، توصَف بها النكرةُ، فتزيدها إبهامًا وشيوعًا وعمومًا. والمعنى: مثلاً أيَّ مثل كان. وقد تفيد التحقير؛ كقولك: أعطه شيئًا مَّا، وتفيد التعظيم؛ كقولهم في المثل:{ لأمر مَّا جدع قصيرُ أنفه }، وتفيد التنويع؛ كقولك: اضربه ضربًا مَّا. وقد جعلها بعضهم- هنا- سيفَ خطيبٍ. أي: صلة مُلغاة، أو زائدة. وعليه يكون التقدير: مَثَلاً بَعُوضَةً. والقرآن الكريم أجلُّ وأعظمُ من أن يُلْغَى فيه شيءٌ، أو يُزادُ لغير معنى. وقد وصفه الله تعالى بكونه هدى وبيانًا. وكونُه فيه لغوٌ، أو زائدٌ ينافي ذلك.
وقوله تعالى:﴿ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ تفسير لـقوله:﴿ مَثَلًا مَا ﴾، وبدل منه. وقرىء:﴿ بَعُوضَةٌ ﴾، بالرفع. وتوجيهُ هذه القراءة عند النحاة أن البعوضة خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو. وعليه تكون ﴿ مَا ﴾ موصولة، ويكون التقدير: مثلاً الذي هو بعوضةٌ.
و﴿ بَعُوضَةٌ ﴾ واحد البعوض، وهو من الحشرات ثنائية الجناحين، ويشترك مع الذباب في عائلة واحدة، ويتواجد بكثرة في كل أنحاء العالم ماعدا القطبين. ولفظه مَبْنِيٌّ من البَعْض، بمعنى: القطع؛ وذلك لصغر جسمه بالإضافة إلى سائر الحشرات. وقيل: خصَّه الله تعالى بالذكر في القلة، فأخبر سبحانه أنه لا يستحيي أن يضرب أقلَّ الأمثال في الحق وأصغرها. وعن قتادة قال:” البعوضة أضعف ما خلق الله “. ومع ذلك ففيها من دقيق الصنع، وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه، ولا ينكر ذلك إلا نمرود. ومما قيل في وصفها: إنها صغيرة جدًا، وخرطومها في غاية الصغر، ثم إنه مع ذلك مجوَّف، وإنه مع فرط صغره، وتجويفه يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته؛ وذلك لما ركب الله تعالى فيه من السم.
والمشهور عن البعوض- ذكرًا كان أو أنثى- أنه مصَّاص للدماء. والذي ثبت أخيرًا أن أنثى البعوض هي التي تمصُّ الدماء دون الذكر. وربما كان في ذكر الله سبحانه للبعوضة بصيغتها المؤنثة نوع من الإعجاز؛ وذلك أن البعوضة المؤنثة أشد قوة، وأكثر تعقيدًا، كما أنها هي التي تنقل الأمراض لانتشارها في المنازل. أما الذكور منها فلا تظهر إلا في موسم التزاوج. والسر في تخصُّص أنثى البعوض بمصِّ الدماء دون الذكر هو البحث عن مصدر للبروتين، لإنتاج وإنضاج البيض، الذي تفرزه، فهي مضطرة لامتصاص الدم؛ لكي تحافظ على دوام نسلها. أما غذاء البعوض عامة فهو من خلاصة الزهور.
*
ابو هريرة- المساهمات : 15
تاريخ التسجيل : 10/05/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى